لم يعد أسلوب “الفزعة”، الفاعل محليا في سوريا، في ظل الأزمة الاقتصادية، وحالة الانهيار الذي تشهده المؤسسات الخدمية، محصورا ضمن صيغة فردية كما كان معروفا، بل بات طريقا يسكله المواطنون بدافع جماعي، ليس لمساعدة شخص ما بعينه فحسب، بل لفك ضائقة كبيرة، في وقت تدور حياتهم “المرّة” ضمن متاهة لا يعرف لها مخرج.
ومنذ منتصف العام المنصرم لاحت في أفق البلاد أزمة اقتصادية غير مسبوقة، خاصة في المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، وبينما تدهور سعر صرف الليرة إلى مستويات قياسية، ساد مشهدٌ من الشلل والعجر، بعدما نفذ مخزون حكومة النظام من المحروقات، مما انعكس على عمل مؤسساتها من جهة، وأسفر عن تقطع سبل الكثير المواطنين والموظفين باحثين عن وسيلة نقل تقلهم إلى الوظيفة، ومن ثم إلى المنزل.
وفي حين أطلقت حكومة النظام الكثير من الوعود و”البشائر القريبة”، إلا أنها لم تترجمها على الأرض حتى الآن، فيما تحدث مواطنون في محافظات سورية مختلفة لموقع “الحرة” عن توجه مجتمعي بات يسلكه كثيرون “مجبرين”، كخطوة لمواجهة “عجز وتخلي الدولة”.
في مدينة حمص وسط البلاد “لم تعد المؤسسات الخدمية التابعة للنظام السوري قادرة على تقديم أي شيء. وحتى لتشغيل مقسم الهاتف أو تخديم مدرسة في قرية نائية”، كما يقول الأستاذ المدرسي، محمد سليمان، إذ يشير إلى “مبادرات” أقرب لتوصيف “الفزعات”، باتت تسلكها الكثير من العائلات من أجل متابعة تعليم أبنائها في المدارس، بعدما أجبرت الضائقة مدرسين على ترك الوظيفة بسبب “عدم كفاية الراتب”.
تتخلص طبيعة هذه “المبادرات” بإقدام الأهالي على جمع مبالغ مالية، بشكل شهري، بعيدا عن أي دور حكومي، من أجل تقديمها للمدرسين بديلا عن المبالغ التي يعجزون عن دفعها لوسائل النقل اليومية، ولدفعهم على استكمال تعليم أبنائهم، بينما يذهب قسم منها لتأمين كميات من المحروقات للتدفئة في الصفوف، ولوجستيات أخرى.
يتلقى المدرّس سليمان راتبا شهريا يصل إلى ما يقارب 110 ألف ليرة سورية (16.3 دولار حسب سعر الصرف الموازي)، ويوضح لموقع “الحرة” أن هذا الرقم “لا يكفيه لدفع أجور النقل”، في حال ينسحب أيضا على جميع نظرائه في البلاد، ولاسيما أن “الموظف يحتاج في اليوم الواحد من 3 لـ4 آلاف ليرة سورية إيجار مواصلات. دوام عشرين يوما يحتاج لـ80 ألف ليرة للمواصلات فقط”، حسب تعبيره.
وسبق أن كشف “برنامج الأغذية العالمي” أن عددا قياسيا من السوريين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، حيث يكافح 12.4 مليون شخص حاليا للحصول على وجبة أساسية.
ويمثل هذا العدد ما يقرب من 60 في المئة من سكان البلاد، وقد زاد هذا بنسبة مذهلة بلغت 4.5 ملايين شخص خلال العام الماضي وحده، بينما يوجد نحو 1.8 مليون شخص آخرين معرضين لخطر انعدام الأمن الغذائي، ما لم يتم اتخاذ إجراءات إنسانية عاجلة.
“إلى غير رجعة”
ورغم أن الأزمات الاقتصادية لم تفارق سوريا على مدى السنوات الماضية من الحرب، إلا أن الظلال التي تلقي بها الأزمة الحالية لم يسبق أن خيمت بهذه التداعيات على السكان، لاسيما مع حالة العجز التي تعيشها حكومة النظام السوري، بينما ألمحت لها في أوقات متفرقة على لسان مسؤوليها.
وبعدما بات غالبية السوريين تحت خط الفقر، بعد أكثر من 11 عاما من الحرب التي أنهكت الاقتصاد ومقدّراته، عدا عن تداعيات العقوبات الغربية المفروضة على نظام الرئيس بشار الأسد، تتضاءل تدريجيا قدرة حكومته على توفير الاحتياجات الرئيسية على وقع تدهور العملة المحلية.
وكان الأسد قد أصدر قبل نهاية العام 2022 القانون القاضي “بتحديد اعتمادات الموازنة العامة للدولة، للسنة المالية 2023، بمبلغ إجمالي قدره 16,550 مليار ليرة سورية”. لكن وبالنظر إلى قيمة هذا الرقم مقابل الدولار فهو يقل بقرابة مليار دولار عن عام 2022.
وتعادل قيمة موازنة 2023 قرابة 2.8 مليار دولار أميركي وفق سعر الصرف في السوق السوداء، فيما بلغت نحو 3.8 مليار وفق سعر الصرف ذاته عام 2022. وقبل عام كانت الموازنة محددة بـ13.325 مليار ليرة سورية.
ومن حمص وسط البلاد، إلى السويداء في جنوبها، لا يختلف حال هذه المحافظة، إذ باتت تشهد وخاصة خلال الأشهر الثلاثة الماضي، إقدام المجتمع المحلي على تنفيذ “مبادرات وحملات”، لإبقاء الخدمات التي يحتاجونها “على قيد الحياة”، سواء المدارس التي يتلقى فيها الأبناء التعليم أو الاتصالات وشبكات الكهرباء والمياه.
ويقول الصحفي ريان معروف، المقيم في السويداء، لموقع “الحرة” إن “المبادرات الأهلية في المحافظة التي ظهرت على نحو أكبر خلال الشهرين الماضيين تتركز بشكل أساسي على تأمين جمع مبالغ مالية لتفعيل شبكات الاتصالات والمياه، وسط “عجز الدولة عن توفير أدنى الخدمات للسكان”.
ويضيف معروف وهو مدير شبكة “السويداء 24” الإخبارية: “السكان في المحافظة بدأوا يتوجهون لتوفير الخدمات من خلال التبرعات. هم مجبرون وفي المحصلة يريدون العيش ولا خيارات أمامهم”.
ولا تقتصر المبالغ المالية التي يتم جمعها على أفراد من داخل المحافظة، بل يأتي قسم منها من المغتربين في الخارج، ووصلت في بعض القرى والبلدات إلى حدود 400 مليون ليرة سورية.
وفي غضون ذلك كانت الفعاليات الدينية والاجتماعية في بلدة قنوات في ريف السويداء قد اجتمعت، قبل أسبوعين، بحضور الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز، الشيخ حكمت الهجري، ورئيس مجلس البلدية، وقرر المجتمعون ضرورة الاعتماد على مصادر الطاقة البديلة، لحل مشكلتي المياه والاتصالات، في ظل تراجع التغذية الكهربائية إلى الحدود الدنيا.
و”مع عدم التزام الدولة في مسؤولياتها”، اتفق أهالي قنوات على فتح باب التبرعات الأهلية، عبر لجنة الوقف وفعاليات خيرية أخرى في البلدة، لجمع مبالغ مالية، بهدف شراء وتركيب طاقة شمسية، لتغذية مركز الهاتف، ومحطة المياه بالطاقة، وضمان عدم انقطاع الخدمتين عن الأهالي.
ويوضح الصحفي السوري: “المجتمع المحلي أصبح يسير في هذا الاتجاه، بعدما باتت مهمة الدولة تقتصر على الجباية وفرض الضرائب”، مشيرا من جانب آخر إلى “حملة تبرعات” حصلت في الريف الجنوبي للمحافظة، من أجل “شراء ورق امتحانات للطلاب في المدارس”.
ويتابع: “دور الدور انتهى إلى غير رجعة على ما يبدو. الناس تريد البحث عن حلول لتوفير أدنى الخدمات”.
“مراحل الانهيار التام”
ولا يوجد أي ضوء في نهاية النفق المظلم اقتصاديا ومعيشيا، الذي تسير فيه سوريا منذ سنوات طويلة، ويتوقع محللون اقتصاديون أن يزداد الوضع باتجاه الأسوأ، بسبب غياب أي مؤشرات تقود إلى غير ذلك.
ويحمّل النظام السوري مسؤولية ما آلت إليه البلاد للعقوبات الغربية المفروضة عليه، بينما تؤكد هذه الدول أن الإجراءات المتخذة لا تشمل القطاعات التي تمس حياة المواطنين.
يرى الصحفي السوري، مختار الإبراهيم أن “كل المؤشرات تقود إلى أن المناطق الخاضعة لسيطرة النظام في سوريا باتت في المراحل الأخيرة من الانهيار الاقتصادي التام”.
ويقول الإبراهيم لموقع “الحرة”: “عندما تضطر المؤسسات إلى التوقف عن العمل لعدم وجود وسائل نقل وطاقة أو إيصال الموظفين والطلاب فنحن أمام انهيار تام”، وأيضا “عدم قدرة النظام على تأمين الحد الأدنى لعمل مؤسساته يعتبر انهيار”.
“نرى أن الأهالي هم من يقومون بالمبادرات لتأمين المعيشة، سواء في الطاقة عبر تركيب الألواح الضوئية التي تكلف الكثير وفي الحد الوسطي ثمانية آلاف دولار. هذا الرقم وعندما نقيسه مع متوسط الراتب الشهري للموظف من 15 إلى 20 دولار فهو مهول”.
ويشير الصحفي الاقتصادي إلى الخطوات الأخيرة والمتسلسلة التي اتخذتها حكومة النظام السوري برفع الدعم عن كافة السلع وبشكل غير معلن، بينما تنصلت من كافة الالتزامات لتقديم الخدمات للمواطنين.
ويضيف الإبراهيم: “إقدام المجتمع المحلي على هذه المبادرات يؤكد أننا أمام المرحلة الأخيرة من الانهيار الاقتصادي. الاقتصاد في البلاد ربما يحتاج لرصاصة رحمة للإجهاز عليه إن صح القول”.
وكانت “المبادرات” أو “الفزعات” كما أطلق عليها، قد تصدّرت مشهد محافظة درعا إلى جانب حمص والسويداء، التي سيطر عليها النظام السوري، بموجب اتفاقيات تسوية متكررة، بعد العام 2018.
في بلدات داعل وتسيل وإبطع بريف المحافظة، جمع أهالي ومغتربون مئات ملايين الليرات السورية ضمن حملة بعنوان “فزعة أهل الخير”، والتي أدارتها مباشرة المجالس المحلية التابعة للنظام السوري وعدد من الوجهاء، ثم امتدت إلى بلدات نوى والكرك الشرقي والشيخ مسكين وخربة غزالة.
ويوضح محمد غزال، أحد أبناء الريف الغربي لدرعا لموقع “الحرة”، أن “حملات التبرع التي شهدتها المحافظة بدأت منذ ما يقارب خمسة أشهر، وتجددت في الوقت الحالي، نتيجة لانعدام الخدمات وعجز مؤسسات النظام السوري على تقديمها، وخاصة المياه والكهرباء”.
وشهدت مدينة داعل خلال الأيام الماضية جمع مبلغ مليار و700 مليون ليرة سورية، وكذلك الأمر في مدينة إبطع والشيخ مسكين، ووصل الرقم إلى ثلاثة مليارات ليرة سورية في الحراك وبلدة أخرى في المحافظة.
ويقول المتحدث: “عند الحديث عن رقم من مليار أو مليارين وثلاثة نجد أنه كبير قياسا بالموازنة التي كانت حكومة النظام السوري تصرفها لأي بلدية في قرية أو بلدة”.
ويضيف أن الأموال، بحسب القائمين على جمعها، من المقرر أن تذهب لمشاريع الطاقة الشمسية، وحفر آبار لتأمين المياه، التي يعجز الكثير من أهالي المنطقة تأمينها، إضافة إلى استئناف عمل مقاسم الاتصالات، بعدما توقفت بسبب انعدام المحروقات.
“لا حلول في الأفق”
وحتى الآن، لم يكشف النظام السوري عن أي حلول قريبة للأزمات التي اشتدت تداعياتها في ديسمبر الحالي، وما تزال متواصلة حتى يومنا هذا، وفي حين يتوقع خبراء اقتصاد ظروفا معيشية أسوأ خلال المرحلة المقبلة، استبعدوا في حديث سابق لـ”الحرة” فرضية “إفلاس الحكومة بالكامل”.
واستبعد عبد المنعم الحلبي، الدكتور في العلاقات الاقتصادية والدولية، وهو موظف سابق في مصرف سوريا المركزي، أن يصل الأمر في البلاد وعلى المدى المنظور إلى “حد الإفلاس”، لكنه أوضح أن “المشكلة بالنسبة لموظفي القطاع العام والمواطنين تبقى قائمة، باستمرار انهيار القيمة الحقيقية للأجور نتيجة التضخم الجامح والمزدوج، الذي ينتج عن تضخم عالمي بسبب الطاقة وانحدار القيمة الشرائية لليرة”.
وفي آخر التعليقات الرسمية نشر “مصرف سوريا المركزي” بيانا، الثلاثاء، قال فيه إنه يتابع منذ فترة المتغيرات الاقتصادية في سورية والخارج، وبناء على مراجعات مستمرة للسياسة النقدية، والدراسات التحليلية التي يجريها، إضافة إلى التواصل المستمر مع مختلف الفعاليات الاقتصادية للاطلاع على مشكلاتها ومقترحاتها”.
ووعد المصرف أن “يتخذ مجموعة من القرارات يُعلن عنها تباعا في الفترة القادمة ، لضمان استقرار أسعار الصرف وواقعيتها، وتشجيع الإنتاج، وتسهيل توفر السلع في السوق المحلية، وانسيابية عمليات التصدير”.